ذكر لي بعضهم حديث “بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ” رواه أحمد والجماعة، وكأنه يفهم منه أن الإسلام سينكمش ويضعف وأن على من يسمع هذا الحديث أن يهادن الإثم، ويداهن الجائرين ويستكين للأفول الذي لا محيص عنه!
وإيراد الحديث وفهمه على هذا النحو مرض شائع قديم.
ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى صلاح الدين الأيوبي ما فكر في استنقاذ بيت المقدس من الصليبيين القدامى!
ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى سيف الدين قطز ما نهض إلى دحر التتار في ” عين جالوت ”!
ولو سرت جرثومة هذا المرض إلى زعماء الفكر الإسلامي في عصرنا الحاضر ابتداء من جمال الدين الأفغاني إلى الشهداء والأحياء من حملة اللواء السامق ما فكروا أن يخطوا حرفاً أو يكتبوا سطراً!
وقلت في نفسي : أيكون الإسلام غريباً وأتباعه الذين ينتسبون إليه يبلغون وفق الإحصاءات الأخيرة ثمانمائة مليون نفس؟
يا للخذلان والعار!
الواقع أن هذا الحديث وأشباهه يشير إلى الأزمات التي سوف يواجهها الحق في مسيرته الطويلة فإن الباطل لن تلين بسهولة قناته بل ربما وصل في جرأته على الإيمان أن يقتحم حدوده ويهدد حقيقته، ويحاول الإجهاز عليه!
وعندما تتجلى الظلماء عن رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، يقاومون الضلال بجلد، ولا يستوحشون من جو الفتنة الذي يعيشون فيه، ولا يتخاذلون للغربة الروحية والفكرية التي يعانونها، ولا يزالون يؤدون ما عليهم لله حتى تنقشع الغمة ويخرج الإسلام من محنته مكتمل الصفحة، بل لعله يستأنف زحفه الطهور فيضم إلى أرضه أرضاً وإلى رجاله رجالاً.
وذلك ما وقع خلال إعصار مضت، وذلك ما سيقع خلال أعصار تجيء، وهذا ما ينطق به حديث الغربة الآنف، فقد جاء في بعض رواياته:
“طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدى من سنتى ” [ راجع في روايات الحديث كلها كتاب “غربة الإسلام” لابن رجب الحنبلى ] فليست الغربة موقفاً سلبياً عاجزاً، إنها جهاد قائم دائم حتى تتغير الظروف الرديئة ويلقى الدين حظوظاً أفضل.
وليس الغرباء هم التافهون من مسلمي زماننا، بل هم الرجال الذين رفضوا الهزائم النازلة وتوكلوا على الله في مدافعتها حتى تلاشت!
والفتن التي لا شك في وقوعها والتي طال تحذير الإسلام منها فتنة التهارش على الحكم والتقاتل على الإمارة ومحاولة الاستيلاء على السلطة بأي ثمن، وما استتبعه ذلك من إهدار للحقوق والحدود، وعدوان على الأموال والأعراض .. وهذا المرض كان من لوازم الطبيعة الجاهلية التي عاشت على العصبية العمياء..
والعرب في جاهليتهم ألفوا هذا الخصام والتعادى، فهم كما قال دريد بن الصمة:
يغار علينا واترين فيشتفي
بنا إن أصبنا أو نغير على وتر
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا
فما ينقضى إلا ونحن على شطر
وما رواه أحمد عن تميم الدارمى يؤيده ما رواه عن المقداد بن الأسود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ” لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام يعز عزيزاً ويذل ذليلاً، أما الذين يعزهم الله فيجعلهم من أهلها وأما الذين يذلهم الله فيدينون لها ” [ رواه ابن حبان كما في الزوائد للهيثمى رقم ( 1621 ) وجماعة . راجع الأحاديث الصحيحة للألبانى (1 / 7 ) ].
وكذلك ما رواه عن قبيصة بن مسعود : صلى هذا الحى من محارب ـ اسم قبيلة ـ الصبح، فلما صلوا قال شاب منهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها ـ أمراءها ـ في النار إلا من اتقى وأدى الأمانة ”.
ويقول صاحب المنار في نهاية تفسيره لقوله تعالى : ” قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم .. ” : اعلم أن الاستدلال بما ورد من أخبار وآثار في تفسير هذه الآية لا يدل هو ولا غيره من أحاديث الفتن على أن الأمة الإسلامية قد قضى عليها بدوام ما هى عليه الآن من الضعف والجهل كما يزعم الجاهلون بسنن الله اليائسون من روح الله، بل توجد نصوص أخرى تدل على أن لجوادها نهضة من هذه الكبوة، وأن لسهمها قرطة بعد هذه النبوة كالآية الناطقة باستخلافهم في الأرض ـ سورة النور ـ فإن عمومها لم يتم بعد، وكحديث ” لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً، وحتى يسير الراكب بين العراق ومكة لا يخاف إلا ضلال الطريق ” رواه أحمد ..
” والشطر الأول منه لم يتحقق بعد، ويؤيده ويوضح معناه ما صح عن مسلم من أن ساحة المدينة المنورة سوف تبلغ الموضع الزى يقال له اهاب، أي أن مساحتها ستكون عدة أميال، فكونوا يا قوم من المبشرين لا من المنفرين .. ” ولتعلمن نبأه بعد حين ”.
وخطأ كثير الشراح جاء من فهمهم أن ترك الشر هو غاية التدين وأن اعتزال الفتن هو آية الإيمان.
وهذا عجز سببه ضعف الهمة وسقوط الإرادة.
وإني لأذكر فيه قول المتنبى :
إنا لفي زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسان واجمال
أجل، فإن ترك الصغائر غير بلوغ الأمجاد، وتجنب التوافه والرذائل غير إدراك العظائم وتسنم الهام، والتلميذ الذي لا يسقط شيء والذي يحرز الجوائز شيء آخر!
والرسول الكريم عندما يأمرنا باعتزال الفتن لا ينهى واجبنا عن هذا الحد..
سوف يبقى بعد ذلك الاعتزال الواجب بناء الأمة على الحق ومد شعاعاته طولاً وعرضاً حتى تنسخ كل ظلمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق