يمكن التعرف على منهج دعوة النبي عليه السلام من خلال ثلاثة مشاهد أو قبسات مضيئة من دعوته وحياته نجعلها تحت مجهر مكبر
المشهد الأول
كانت دعوته مدمجة في حياته متشعبة في مناشطه. فلم تكن مقتصرة في دروسه وخطبه، ففي الطريق دعوة، وعلى المائدة دعوة، وفي المسجد دعوة وفي السوق دعوة وعلى بساط العافية دعوة، وعلى فراش الموت دعوة.فقد أخذ مرة في السوق بتيْس ميت أجدع أسك وقال من يشتري هذا بدرهم؟ ثم قال: للدنيا أهون على الله من هذا على أحدكم ثم مضى. محاضرة في السوق لم تأخذ بضع دقائق ومناسبة للمقام، ومرّ به شاب بهيّ المنظر فأعجب الصحابة به وبقوته فتمنّوا أن لو استعمل قوته في سبيل الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن كان خرج يسعى على أبوين شيخين فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على صبية صغار فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى لحفظ ماء وجهه فهو في سبيل الله. فانظر كيف وظف إعجاب الصحابة بقوة ذلك الشاب.و سرد على مائدة الطعام حديث الشفاعة الطعام لما رأى ذلك مناسبا. ولم يترك الدعوة حتى في مرض موته، فقال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذّر مما صنعوا، بل كان يذرف آخر أنفاسه وهو يدعو ويقول: الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم.
المشهد الثاني
كانت دعوته مدمجة في مشاعره وعواطفه وهمومه، فلها يفرح ولها يحزن ولها يسرّ ولها يغضب بل إن ربه الذي كلّفه بالدعوة قال (ادع إلى سبيل ربك) عاتبه فقال: ( لعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا) ، ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات)، ولما سألته عائشة هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ يوم أحد الذي شجّ فيه وجهه وكسرت رباعيته وقتل عمه، وبقرت بطنه وصرع 70 من أصحابه، إذا به يجيب بنعم، أشد ما لقيت من قومك إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أفق إلا في قرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره فيما شئت فيهم قال فناداني ملك الجبال فسلّم علي ثم قال يا محمد إن الله سمع قول قومك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك لتأمرني بأمرك إن شئت أطبق عليهم الأخشبين فقال رسول الله (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا). فانظر كيف غلبت مشاعر إنقاذ الأمة من النار على مشاعر الثأر والانتقام، وانظر كيف قطع هذه المسافة الطويلة من الطائف إلى السيل إلى قرن الثعالب مهموما لا يشعر لما ردوا دعوته. وضربه قومه مرة حتى أدموه، فكان يمسح الدم عن وجه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، وعندما فقد الغلام اليهودي الذي كان يخدمه وعرف أنه مريض عاده في بيته فوجده في آخر أنفاسه فدعاه إلى الإسلام فلما أسلم خرج وهو فرح يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار. ولما رزق بابن في كبره سماه باسم أبيه إبراهيم ولما بلغ من العمر 18 شهرا دخل عليه وهو يلفظ آخر أنفاس حياته ثم فاضت روحه فسال الدمع من عينيه وهو يقول: إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولكن لم يغلب وجدان الأب الكبير الذي فقد أنس البنوة على حرصه على الدعوة ولم يؤخر الدعوة إلى برود الحزن بل قد خرج في الظهيرة لما كسفت الشمس وهو يقول: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته... وهذه القصة كانت سبب إسلام قريبة قبطية كاملة في مصر.
المشهد الثالث
قدرته صلى الله عليه وسلم العجيبة واقتداره البارع في نقل ما تشبّع به من همّ الدعوة إلى روع صحابته حتى تشبعوا بما تشبّع به، حتى انتشروا بعده حاملين همّ هذه الدعوة إلى أقطار الدنيا لينشروها، فلما بال ذلك الأعرابي في المسجد وزجره الصحابة قال (إنما بعثت ميسرًا)، فنسب البعثة إلى الصحابة واستشعر الصحابة هذا الأمر، فهذا ربعي يقول أمام ملك فارس إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. وهذا ضمام بن ثعلبة يأتيه من ديار بني سعد فيدخل ببعيره المسجد ويعقله فيه ويجلس جلسة مع النبي r ويتعلم منه أركان الإسلام الخمسة ويسلم ويرجع إلى قومه داعيا ومحذرا من عبادة اللات والعزى. فلنقف جميعا إمام كل مشهد لنتساءل أنفسنا: أين نحن من هذه المشاهد؟!!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق